فصل: تفسير الآية رقم (158)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس إَني رسولُ الله إليكم جميعًا‏}‏؛ الأحمر والأسود، والعرب والعجم، والإنس والجن، خص بهذه الدعوة العامة، وإنما بعثت الرسل إلى قومها خاصة‏.‏ فادع الناس أيها الرسول إلى الله تعالى، ‏{‏الذي له ملك السماوات والأرض‏}‏ يتصرف فيهما كيفما شاء، ‏{‏لا إله إِلا هو‏}‏؛ لأن من ملك العالم كان هو الإله لا غير، ‏{‏يُحيي ويميت‏}‏؛ لعموم قدرته ونفوذ أمره، ‏{‏فآمنوا بالله ورسوله النبي الأُمي الذي يُؤمن بالله وكلماته‏}‏ أي‏:‏ ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل قبله من كتبه ووحيه‏.‏ وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة، أي‏:‏ ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل قبله من كتبه ووحيه‏.‏ وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة، أي‏:‏ لم يقل‏:‏ فآمنوا بالله وآمنوا؛ لإجراء هذه الصفات عليه، الداعية إلى الإيمان به وأتباعه، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏واتبعوه لعلكم تهتدون‏}‏ إلى طريق الحق والرشد، جعل رجاء الاهتداء آثر الأمرين؛ تنبيهًا على أن من صدّقه، ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ لا غنى للمريد عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو بلغ ما بلغ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوه لعلكم تهتدون‏}‏، وغاية الاهتداء غير متناهية، لأن آدب العبودية مقرونٌ مع عظمة الربوبية، فكما أن الترقي في مشاهدة الربوبية لا نهاية له، كذلك أدب العبودية لا نهاية له، ولا تُعرف كيفية الأدب إلا بواسطة تعليمه عليه الصلاة والسلام، فواسطة النبي صلى الله عليه وسلم لا تفارق العبد، ولو عرف ما عرف، وبلغ ما بلغ‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومن قوم موسى‏}‏، يعني بني إسرائيل، ‏{‏أمةٌ‏}‏ طائعة ‏{‏يهدون‏}‏ الناس بكلمة الحق، أو متلبسين ‏{‏بالحق‏}‏؛ وهم الذين ثبتوا حين افتتن الناس بعباده العجل، والأحبار الذين تمسكوا بالتوراة من غير تحريف، أو الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وبه‏}‏ أي‏:‏ بالحق ‏{‏يعدِلُون‏}‏ في أحكامهم وقضاياهم‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن؛ تنبيهًا على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ في كل أمة، وفي كل عصر، أمة صالحة، يُبَصِّرُونَ الناس بالحق، ويدعون إلى الله، فمنهم مَن يهدي إلى تزيين الظواهر بالشرائع، وهم العلماء الأتقياء، ومنهم من يَهدي إلى تنوير السرائر بالحقائق، وهم الصوفية الأولياء، المحققون بمعرفة الله‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أسباطًا‏}‏‏:‏ بدل لا تمييز؛ لأن تمييز العدد يكون مفردًا، والتمييز محذوف، أي‏:‏ فرقة أسباطًا‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يصح تمييزًا؛ لأن كل قبيلة أسباطٌ لا سبط‏.‏ ه‏.‏ فكأنه قال‏:‏ وقطعناهم اثنتي عشر سبطًا سبطا‏.‏ والسبط في بني إسرائيل كالقبيلة عند العرب، و‏{‏أُممًا‏}‏‏:‏ بدل بعد بدل على الأول، وعلى الثاني بدل من أسباط‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقطَّعناهم‏}‏ أي‏:‏ بني إسرائيل‏:‏ فرقناهم ‏{‏أثنتي عشر أسباطًا‏}‏؛ أثني عشر سبطًا، ‏{‏أُممًا‏}‏‏:‏ متميزة، كل سبط أمة مستقلة، ‏{‏وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه‏}‏ في التيه، ‏{‏أن اضرب بعصاك الحجر فانبجَست‏}‏؛ انفجرت، إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار، أي‏:‏ فضرب فانبجست، وحذفه للإيماء إلى أن موسى لم يتوقف في الامتثال، وأن ضربه لم يكن مؤثرًا يتوقف عليه الفعل ذاته، بل سبب عادي وحكمة جارية، والفعل إنما هو القدرة الإلهية، أي‏:‏ نبعت ‏{‏منه اثنتا عشرةَ عينًا قد علم كلُّ أُناس‏}‏؛ كل سبط ‏{‏مشربهم وظلّلنا عليهم الغمام‏}‏ لتقيهم من حرّ الشمس، ‏{‏وأنزلنا عليهم المنَّ والسلوى‏}‏، وقلنا لهم‏:‏ ‏{‏كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ سبق في سورة البقرة، وكذلك الإشارة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 162‏]‏

‏{‏وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏161‏)‏ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏162‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكروا ‏{‏إذ قيلَ‏}‏ لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏اسكنوا هذه القرية‏}‏؛ بيت المقدس، ‏{‏وكُلوا منها حيث شئتم وقولوا‏}‏‏:‏ أمرنا ‏{‏حِطةٌ وادخلوا الباب سُجّدًا‏}‏ سجود أنحناء، ‏{‏نغفر لكم خطيئاتِكم‏}‏ التي سلفت، ‏{‏سنزيد المحسنين‏}‏؛ وعد بالغفران والزيادة عليه، وإنما أخرج الثاني مخرج الاستئناف، يعني‏:‏ سنزيد، ولم يقل‏:‏ وسنزيد؛ للدلالة على أنه تفضل محض، ليس في مقابلة ما أمروا به، ‏{‏فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم‏}‏؛ قالوا‏:‏ حبة في شعرة، مكان حطة، لأنهم حملوا الحطة؛ على الحنطة‏.‏ ‏{‏فأرسلنا عليهم رجزًا من السماء بما كانوا يظلمون‏}‏ قد مر تفسيره، وإشارته، في سورة البقرة‏.‏

تنبيه‏:‏ وقع اختلاف كثير في اللفظ بين هذا الموضع من هذه السورة وبين سورة البقرة، في ‏{‏انفجرت‏}‏ و‏{‏انبجست‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذ قلنا ادخلوا‏}‏ و‏{‏إذا قيل لهم اسكنوا‏}‏، وقوله هنا‏:‏ ‏{‏وكُلُوا‏}‏، وهناك ‏{‏فكُلُوا‏}‏‏.‏ فقال الزمخشري‏:‏ لا بأس باختلاف العبارتين، إذا لم يكن هناك تناقض‏.‏ ووجّه بعضهم الفرق بأن ما في هذه السورة سيق في محل الغضب والعقاب على عبادة العجل، وما في سورة البقرة سيق في محل الامتنان، فلذلك عبَّر هنا بانبجست؛ لأنه أقل من انفجرت، وعبَّر هنا بقيل؛ مبنيًا للمجهول؛ تحقيرًا لهم أن يذكر نفسه لهم، وعبَّر هنا بالسكنى؛ لأنه أشق من الدخول ويستلزمه، وعبَّر هنا بالواو؛ لأن السكنى تجامع الأكل، بخلاف الدخول، فإن الأكل مسبب عنه، فعبَّر بالفاء، وزاد في البقرة الواو في‏:‏ ‏{‏سنزيد‏}‏، كأنه نعمة أخرى، بخلاف هذا، وزاد هنا ‏{‏منهم‏}‏؛ لتقدم ذكرهم في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ قيل لهم‏}‏، وعبّر هنا بالظلم؛ لأنه أعم من الفسق وغيره‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 166‏]‏

‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏163‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏164‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏165‏)‏ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏166‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إذ يَعْدُون‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏القرية‏}‏، بدل اشتمال، أو منصوب بكانت، أو بحاضرة و‏{‏إذ تأتيهم‏}‏‏:‏ منصوب بيعدون، و‏{‏سبتهم‏}‏‏:‏ مصدر مضاف للفاعل، يقال‏:‏ سبت اليهود سبتًا‏:‏ إذا عظم يوم السبت وقطع شغله فيه، و‏{‏شُرَّعًا‏}‏‏:‏ حال، ومعناه‏:‏ ظاهرة قريبة منهم، يقال‏:‏ شرع منه فلان إذا دنا منه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏واسألهم عن القرية‏}‏ أي‏:‏ اليهود، سؤال تقرير وتوبيخ على تقديم عصيانهم وعما هو من معلومهم، الذي لا يعلم إلا بتعليم أو وحي، وقد تحققوا أنك أُمي، فيكون ذلك معجزة وحجة عليهم، ‏{‏عن القرية‏}‏ أي‏:‏ عن خبرها وما وقع لها، ‏{‏التي كانت حاضرةَ البحر‏}‏ قريبة منه، وهي «إيلة»، قرية بين مدين والطور، على شاطىء البحر، وقيل‏:‏ مدين، وقيل‏:‏ طبرية، ‏{‏إذ يَعدُون في السّبِت‏}‏‏:‏ يتجاوزون حدود الله بالاصطياد في يوم السبت، وكان حرامًا عليهم لاشتغالهم عنه بالعبادة، ‏{‏إذ تأتيهم حيتانُهم يوم سبتهم شُرّعًا‏}‏‏:‏ ظاهرة على وجه الماء، دانية منهم، ‏{‏ويوم لا يَسبِتُون لا تأتيهم‏}‏ بل تغوص كلها في البحر، ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل هذا البلاء الشديد ‏{‏نَبلوهم بما كانوا يفسقون‏}‏ أي‏:‏ بسبب فسقهم‏.‏ وقيل «كذلك»‏:‏ متصل بما قبله، أي‏:‏ لا تأتيهم مثل ذلك الإتيان الذي تأتيه يوم السبت‏.‏

ثم افترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق‏:‏ فرقة عصت بالصيد يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلت القوم، وفرقة سكتت واعتزلت فلم تنه ولم تعص‏.‏ ‏{‏وإذ قالت أُمةٌ منهم‏}‏، وهي التي لم تنه ولم تعص‏.‏ لَمَّا رأت مهاجرة الناهية وطغيان العاصية‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُون قومًا اللهُ مهلكهم‏}‏ بالموت بصاعقة، ‏{‏أو معذبهم عذابًا شديدًا‏}‏ في الآخرة‏؟‏ ‏{‏قالوا‏}‏‏:‏ نهينا لهم ‏{‏معذرة إلى ربكم‏}‏ أي‏:‏ عذرًا إلى الله تعالى، حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر، ‏{‏ولعلهم يتقون‏}‏ فينزجرون عن العصيان، إذ اليأس منهم لا يحصل إلا بالهلاك‏.‏

‏{‏فلما نَسُوا ما ذُكِّروا به‏}‏ أي‏:‏ تركوا ما وُعظوا به ترك الناسي، ‏{‏أنجينا الذين ينهون عن السوءِ وأخذنا الذين ظلموا‏}‏؛ بالاعتياد ومخالفة أمر الله، ‏{‏بعذابٍ بئيس‏}‏‏:‏ شديد، من بؤس يبؤس بؤسًا، وقرىء ‏(‏بيْئَسٍ‏)‏ على وزن ضيغم، و«بِئْس» بالكسر والسكون، كحذر، وبيس بتخفيف الهمزة، ومعناها واحد، أي‏:‏ بما عاقبناهم بالمسخ، ‏{‏بما كانوا يفسقون‏}‏ أي‏:‏ بسبب فسقُهم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لا أدري ما فعل بالفرقة الساكتة‏؟‏ وقال عكرمة‏:‏ لم تهلك؛ لأنها كرهت ما فعلوه‏.‏ ورجع إليه ابن عباس وأعجبه، لأن كراهيتها تغيير المنكر في الجملة، مع قيام الفرقة الناهية به؛ لأنه فرص كفاية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما عتوا عما نُهوا عنه‏}‏؛ تكبرًا عن ترك ما نُهوا عنه، ‏{‏قلنا لهم كونوا قردة خاسئين‏}‏ أذلاء صاغرين‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ‏{‏قلنا لهم كونوا‏}‏، وهو كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏، والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذَّبهم أولاً بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك، فمسخهم قردة وخنازير، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرًا وتفصيلاً للأولى‏.‏

رُوِي أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين، كرهوا مساكنتهم، فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق، فأصبحوا يومًا ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين، فقالوا‏:‏ إن لهم شأنًا، فدخلوا عليهم فإذا هم قردة، فلم يعرفوا أنسباءهم، ولكن القردة تعرفهم، فجعلت تأتي أنسباءهم وتشم ثيابهم، وتدور باكية حولهم، ثم ماتوا بعد ثلاثة أيام‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ المسخ على ثلاثة أقسام‏:‏ مسخ الأشباح، ومسخ القلوب، ومسخ الأرواح، فمسخ الأشباح هو الذي وقع لبني إسرائيل، قيل‏:‏ إنه مرفوع عن هذه الآمة، والصحيح‏:‏ أنه يقع في آخر الزمان، ومسخ القلوب يكون بالانهماك في الذنوب، والإصرارعلى المعاصي، وعلامته‏:‏ الفرح بتيسير العصيان، وعدم التأسف على ما فاته من الطاعة والإحسان، ومسخ الأرواح‏:‏ الانهماك في الشهوات، والوقوف مع ظواهر الحسيات، أو تكثيف الحجاب، والوقوف مع العوائد والأسباب، دون مشاهدة رب الأرباب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏167‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏167‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏تأذن‏}‏‏:‏ أعلم، وهي تفعل، وهي من الإيذان بمعنى الإعلام، كتوعّد وأوعد، أو‏:‏ عزم، لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله، وأجرى مجرى القسم كعَلِم الله وشهد الله، ولذلك أجيب باللام القسمية‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكروا ‏{‏إذ تأَذَّن ربُّك‏}‏ أي‏:‏ أعلم وأظهر ذلك في عالم الشهادة، ‏{‏ليبعثنَّ‏}‏ على بني إسرائيل، أيك ليسلطن ‏{‏عليهم إلى يوم القيامة مَن يسومُهم سُوءَ العذابِ‏}‏؛ كالإذلال وضرب الجزية، وقد بعث الله عليهم بعد سليمان عليه السلام بُختنصر، فخرب ديارهم، وقتل مقاتلتهم، وسبى نساءهم وذراريهم، وضرب الجزية على من بقي منهم، وكانوا يؤدونها إلى المجوس، حتى بعث الله نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ففعل بهم ما فعل، في بني قريظة والنضير وخبير، ثم ضرب الله عليهم الجزية إلى آخر الدهر، ‏{‏إن ربك لسريع العقاب‏}‏ فعاقبهم في الدنيا، ‏{‏وإنه لغفور رحيم‏}‏ لمن تاب وآمن، وإنما أكد هنا الخبر باللام دون ما في آخر الأنعام، لأن ما هنا في اليهود، وما في آخر الأنعام في المؤمنين، فأكد ما هنا باللام، فقال‏:‏ ‏{‏لسريع العقاب‏}‏؛ زيادة في توبيخهم ونكالهم‏.‏

الإشارة‏:‏ مواطن الذل والهوان هو الانهماك في المخالفة والعدوان، وقد ينسحب ذلك في الذرية إلى آخر الزمان، فإن الله تعالى يقول‏:‏ أنا الملك الودود، أعاقب الأحفاد بمعاصي الجدود، ومواطن العز والحرمة والأمان‏:‏ هو الطاعة والتعظيم والإحسان، ينسحب ذلك على الأحفاد، إلى منتهى الزمان، فإن الله تعالى يحفظ الأولاد ببركة الأجداد‏.‏ وقد تذاكر بعض التابعين ما يكون في آخر الزمان من الفتن والفساد، فقال بعضهم‏:‏ يا ليتني كنت عقيمًا أو لم أتزوج، فقال له من هو أكبر منه‏:‏ ألا أدلك على ما يحفظ الله عقبك‏؟‏ قال‏:‏ نعم، دلني، قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النِّساء‏:‏ 9‏]‏ الآية‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏168- 170‏]‏

‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏168‏)‏ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏169‏)‏ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أُمَمًا‏}‏‏:‏ مفعول ثانٍ لقطَّعنا، أو حال، وجملة ‏{‏منهم الصالحون‏}‏‏:‏ صفة، وجملة ‏{‏يأخذون‏}‏‏:‏ حال من فاعل ورثوا، و‏{‏يقولون‏}‏ عطف على ‏{‏يأخذون‏}‏، أو حال، والفعل من ‏{‏سيغفر‏}‏‏:‏ مسند إلى الجار والمجرور، أو إلى مصدر ‏{‏يأخذون‏}‏، و‏{‏أن لا يقولوا‏}‏‏:‏ عطف بيان من ‏{‏ميثاق الكتاب‏}‏، أو تفسير له، أو متعلق به، أي‏:‏ لأن لا يقولوا، و‏{‏درسوا‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏ألم يُؤخذ‏}‏ من حيث المعنى، أي‏:‏ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ولم يدرسوا ما فيه، أو حال، أي‏:‏ وقد درسوا، و‏{‏الذين يُمَسِّكُون‏}‏‏:‏ مبتدأ، وجملة‏:‏ ‏{‏إنا لا نضيع أجر المصلحين‏}‏‏:‏ خبر، والرابط‏:‏ ما في المصلحين من العموم، فوضع موضع الضمير؛ تنبيهًا على أن الإصلاح كالمانع من التضييع، أو حذف العائد، أي‏:‏ منهم، ويحتمل أن يكون عطفًا على ‏{‏الذين يتقون‏}‏ أي‏:‏ خير للمتقين والذين يتمسكون بالكتاب‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقطَّعناهم‏}‏ أي‏:‏ فرقناهم ‏{‏في الأرض أُممًا‏}‏‏:‏ فرقًا، ففي كل بلد من البلدان فرقة منهم، فليس لهم إقليم يملكونه، تتمةً لإذلالهم، حتى لا تكون لهم شوكة قط، ‏{‏منهم الصالحون‏}‏ وهو من تمسك بدين التوراة، ولم يحرف، ولم يفرق، أو من آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في زمانه وبعده، ‏{‏ومنهم دون ذلك‏}‏ أي‏:‏ ومنهم ناس دون ذلك، أي‏:‏ منحطون عن الصلاح، وهم كفرتهم وفسقتهم، ‏{‏وبلوناهم‏}‏ أي‏:‏ اختبرناهم ‏{‏بالحسنات والسيئات‏}‏ أي‏:‏ بالنعم والنقم، ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏؛ ينتبهون فينزجرون عمًّا هُم عليه‏.‏

‏{‏فخلَفَ من بعدهم خلفٌ‏}‏ أي‏:‏ فخلف، من بعد الأولين، خلف، أي‏:‏ بدل سوء، وهو مصدر نعت به، فالخلف، بالسكون، شائع في الشر، يقال‏:‏ جعل الله منك خلفًا صالحًا‏.‏ والمراد بالخلف في الآية‏:‏ اليهود الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَرِثوا الكتابَ‏}‏؛ التوراة، من أسلافهم، يقرؤونها ويقفون على ما فيها، ‏{‏يأخذون عَرَضَ هذا الأدنى‏}‏؛ حطام هذا الشيء الحقير، من الدنو، أو من الدناءة، وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في الأحكام، وعلى تحريف الكلام، ‏{‏ويقولون سيُغفرُ لنا‏}‏؛ لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه، اغترارًا وحمقًا‏.‏

‏{‏وإن يأتهم عَرَضٌ مثلُه يأخذوه‏}‏ أي‏:‏ يرجون المغفرة، والحال أنهم مصرون على الذنب، عائدون إلى مثله، غير تائبين منه، ‏{‏ألم يُؤخذْ عليهم ميثاقُ الكتاب‏}‏ أي‏:‏ في الكتاب، وهو التوراة، ‏{‏أن لا يقولوا على الله إِلا الحق‏}‏، وهو تكذيب لهم في قولهم‏:‏ ‏{‏سيُغفر لنا‏}‏، والمراد‏:‏ توبيخهم على القطع بالمغفرة مع عدم التوبة، والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب، ‏{‏ودَرَسُوا ما فيه‏}‏ أي‏:‏ وقد درسوا ما فيه، وعلموا ما أُخذ عليهم فيه من المواثيق، ثم تجرأوا على الله، ‏{‏والدارُ الآخرة خير للذين يتقون‏}‏ مما يأخذ هؤلاء من العرض الفاني‏.‏

‏{‏أفلا يعقلون‏}‏ فيعلموا ذلك، ولا يستبدلوا الأدنى الحقير المؤدي إلى العقاب بالنعيم الكبير المخلد في دار الثواب، ومن قرأ بالخطاب فهو لهم، من باب التلوين في الكلام‏.‏

‏{‏والذين يُمَسِّكُون بالكتاب‏}‏ أي‏:‏ يتمسكون بالتوراة، ‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏ المفروضة عليهم، ‏{‏إنا لا نضيع أجر المصلحين‏}‏ منهم‏.‏ وهذا فيمن مات قبل ظهور الإسلام، أو‏:‏ والذين يمسكون بالقرآن، ‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏ مع المسلمين، ‏{‏إن لا نضيع أجر المصلحين‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ تفريق النسب في البلدان، إن كان في الذل والهوان، فهو من شؤم المخالفة والعصيان، وإن كان مع العز وحفظ الحرمة، فقد يكون لقصد الخير والبركة، أراد الله أن يُنمي تلك البلاد، بنقل ذلك إليها، كأولاد الصالحين والعلماء وأهل البيت‏.‏ ويؤخذ من قبوله‏:‏ ‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون‏}‏، أن العبد مأمور بالرجوع إلى الله في السراء والضراء، في السراء بالحمد والشكر، وفي الضراء بالتسليم والصبر‏.‏

ويؤخذ من مفهوم قوله‏:‏ ‏{‏وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه‏}‏، أن من عقد التوبة وحل عقدة الإصرار غفر له ما مضى من الأوزار‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، تحذير لعلماء السوء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والذين يُمسكون بالكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أي‏:‏ والذين يمسكون بظاهر الكتاب وأقاموا صلاة الجوارح، ‏{‏إنا لا نضيع أجر المصلحين‏}‏ مع عامة أهل اليمين، والذين يمسكون بباطن الكتاب وأقاموا صلاة القلوب التي هي العكوف في الحضرة حضرة الغيوب إنا لا نضيع أجر المصلحين لقلوبهم، وهو شهود رب العالمين مع المقربين، في حضرة الأنبياء والمرسلين، جعلنا الله منهم وفي حزبهم، آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جملة ‏{‏خُذوا‏}‏‏:‏ محكية، أي‏:‏ وقولنا لهم‏:‏ خذوا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏إِذْ نَتقْنا‏}‏ أي‏:‏ قلعنا ورفعنا ‏{‏الجبلَ فَوقَهم‏}‏ أي‏:‏ فوق بني إسرائيل، ‏{‏كأنه ظُلّة‏}‏ أي‏:‏ سقيفة، والظلة‏:‏ كل ما أظلك، ‏{‏وظنّوا‏}‏ أي‏:‏ تيقنوا ‏{‏أنه واقع بهم‏}‏ أي‏:‏ ساقط عليهم بسبب عصيانهم؛ لأن الجبل لا يثبت في الجو؛ لأنهم كانوا يوعدون به، وإنما عبَّر بالظن؛ لأنه لم يقع بالفعل حين الظن، وسبب نتق الجبل أنهم امتنعوا من أحكام التوراة، فلم يقبلوها؛ لثقلها، فرفع الله الطور فوقهم، وقيل لهم‏:‏ إن قبلتم ما فيها وإلاَّ ليقعن عليكم، فقلنا لهم حين الرفع‏:‏ ‏{‏خُذُوا ما آتيناكم‏}‏ من الأحكام ‏{‏بقوةٍ واذكروا ما فيه‏}‏ بالعمل به، ولا تتركوه كالمنسى، ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق‏.‏

الإشارة‏:‏ من لم ينقد إلى الله بملاطفة الإحسان، قيد إليه بسلاسل الامتحان، عجب ربك من قوم يُساقون إلى الجنة بالسلاسل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 174‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ‏(‏172‏)‏ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏173‏)‏ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏174‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من ظهورهم‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏بني آدم‏}‏، أي‏:‏ من ظهور بني آدم، و‏{‏ذريتهم‏}‏‏:‏ مفعول به، و‏{‏بلى‏}‏‏:‏ حرف جواب، يُجاب بها عن الهمزة إذا دخلت على منفي، فخرجت عن الاستفهام إلى التقرير، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما بعد النفي، نحو‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشّرح‏:‏ 1‏]‏، فيجاب ببلى، أي‏:‏ شرحت، وكذا نظائرها، ومنه‏:‏ ‏{‏إلست بربكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

وقد يجاب بها الاستفهام المجرد عن النفي، كما في الحديث‏:‏ «أتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى» ولكنه قليل، فلا يُقاس عليه، بل يوقف على ما سمع، والكثر‏:‏ أنها جواب للنفي، ومعناها‏:‏ إثبات ما نفي، ورفع النفي، لا إثباته وتقريره، بخلاف «نعم»؛ فإنها تقرر ما قبلها من إثبات أو نفي، ولذا قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏ولو قالوا‏:‏ نعم، لكفروا‏)‏، وقد تقدم الفرق بينهما في سورة البقرة، ثم الكثير‏:‏ مراعاة صورة النفي، فيجاب ببلى، وقد ينظر للمعنى وما يفيده الاستفهام الإنكاري من نفيه للنفي، فيصير الكلام إيجابًا، فيصح الجواب بنعم في الجملة، لكن لمَّا كان محتملاً امتنع في الآية‏:‏ انظر المغني‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أن تقولوا‏}‏‏:‏ مفعول من أجله‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكروا ‏{‏إِذْ أخذ ربُّك من بني آدم من ظهورهم‏}‏؛ من ظهور بني آدم ‏{‏ذريَّتهم‏}‏؛ وذلك أن الله تعالى لَمَّا خلق آدم، وأهبطه إلى الأرض، أخرج من صلبه نسيم بنيه، بعضهم من صلب بعض، على نحو ما يتوالدون، قرنًا بعد قرن كالذر، وكان آدم بنَعمان، وهو جبل يواجه عرفة، وقال لهم حين أخرجهم‏:‏ ‏{‏ألستُ بربكم‏}‏ ‏؟‏ فأقروا كلهم، و‏{‏قالوا بلى‏}‏ أنت ربنا، ‏{‏شهِدْنا‏}‏ بذلك على أنفسنا، لأن الأرواح حينئذٍ كانت كلها على الفطرة، علاّمة دَرَّاكة، فلما ركبت في هذا القالب نسيت الشهادة، فبعث اللهُ الأنبياءَ والرسل يُذكِّرون الناس ذلك العهد، فمن أقرّ به نجا، ومن أنكره هلك، ويحتمل أن يكون ذلك من باب التمثيل، وأن أخذ الذرية من الظهر عبارة عن أيجادهم في الدنيا، وأما إشهادهم فمعناه‏:‏ أن الله نصب لبني آدم الأدلة على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم، فكأنه أشهدهم على أنفسهم، وقال‏:‏ ‏{‏ألست بربكم‏}‏ ‏؟‏ وكأنهم قالوا بلسان الحال‏:‏ أنت ربنا‏.‏

والأول هو الصحيح؛ لتواتر الأخبار به، فقوله‏:‏ ‏{‏شَهِدنا‏}‏‏:‏ هو من تمام الجواب، فهو تحقيق لربوبيته وأداء لشهادتهم بذلك، فينبغي أن يوقف عليه، وقيل‏:‏ إنَّ ‏{‏شهدنا‏}‏‏:‏ من قول الله أو الملائكة، فيوقف على ‏{‏بلى‏}‏، لكنه ضعيف‏.‏

ثم ذكر حكمة هذا الأخذ، فقال‏:‏ ‏{‏إن تقولوا‏}‏ أي‏:‏ فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا ‏{‏يوم القيامة إِنا كنا عن هذا غافلين‏}‏، أو كراهية أن تقولوا‏:‏ ‏{‏إنما أشرك آباؤنا من قبلُ وكنا ذرية من بعدهم‏}‏ فاقتدينا بهم، ‏{‏أفتُهلكنا بما فعل المبطِلُون‏}‏، يعني‏:‏ آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك، ولا بد من حذف كلام هنا لتتم الححجة، والتقدير‏:‏ أخذنا ذلك العهد في عالم الأرواح، وبعثنا الرسل يجددونه في عالم الأشباح، كراهة أن تقولوا‏:‏ إنا كنا عن هذا غافلين، ويدل على هذا قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الإسرَاء‏:‏ 15‏]‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏، ولا يكفي مجرد الإشهاد الروحاني في قيام الحجة؛ لأن ذلك العهد نسيته الأرواح حين دخلت في عالم الأشباح، فلا تهتدي إليه إلا بدليل يُذكرها ذلك‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ والمقصود من إيراد هذا الكلام ها هنا‏:‏ إلزام اليهود مقتضى الميثاق العام، بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية، ومنعهم من التقليد، وحملهم على النظر والاستدلال، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نفصل الآيات‏}‏ الدالة على وحدانيتنا سمعاً وعقلاً، ‏{‏ولعلهم يرجعون‏}‏ عن التقليد واتباع الباطل‏.‏

الإشارة‏:‏ أَخَذَ الحقّ جلّ جلاله العهد على الأرواح أن تعرفه وتُوحده مرتين، أحدهما‏:‏ قبل ظهور الكائنات، والثاني‏:‏ بعد ظهورها‏.‏ والأول أخذه عليها في معرفة الربوبية، والثاني تجديدًا له مع القيام بآداب العبودية‏.‏ قال بعضهم‏:‏ أخذ الأول على الأرواح يوم المقادير، وذلك قبل السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم أخذ الثاني على النفوس بعد ظهورها في عالم الأشباح، كما نبهت عليه الآية والأحاديث‏.‏

وقال ابن الفارض في تائيته‏:‏

وَسَابِقِ عَهْدٍ لَمْ يَحُل مُذ عَهِدتُهُ *** ولا حِقِ عَقدٍ جَلَّ عَنْ حَلِّ فتْرَهِ

قال القاشاني‏:‏ أراد بالعهد السابق‏:‏ ما أخذه الله على الأرواح والإنسانية المستخرجة من صلب الروح الأعضم، الذي هو آدم الكبير، في صور المثل، قبل تعلقها بالأشباح، وهو عقد المحبة بين الرب والمربوب، في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ ربك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وبالعهد اللاحق‏:‏ ما أخذه عليهم بواسطة الأنبياء، من عقد الإسلام بعد التعلق بالأبدان، وهو توكيدٌ للعهد الأول، وتوثيقه بالتزام أحكام الربوبية والتزامها‏.‏ ه‏.‏ وقال في الحاشية‏:‏ كلام ابن الفارض ينظر إلى العهد الأول، الروحاني، وكلام غيره ينظر إلى الثاني النفساني، وهو ظاهر الآية‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وفيه نظر، فإن كلام ابن الفارض مشتمل على الهدين معًا، الروحاني في الشطر الأولى، والنفساني في الشطر الثاني‏.‏

والحاصل مما تقدم‏:‏ أن العهد أخذ على الأرواح ثلاث مرات، أحدها‏:‏ حين استخرجت من صلب الروح الأعظم الذي هو آدم الكبير، وهو معنى القبضة النورانية، التي آخذت من عالم الجبروت‏.‏ والثاني‏:‏ حينن استخرجت من صلب آدم الأصغر، كالذر، والثالث‏:‏ حيث دخلت في عالم الأشباح، على ألسنة الرسل، ومن ناب عنهم، فالمذكور في الآية هو الثاني، وهو أحسن من حَملِ القاشاني الآية على الأول‏.‏

فالحاصل‏:‏ أن الأخذ الأول كان على الأرواح مجردة عن مادة التطوير والتمثيل، بإقرارها إقرار النفوس، لا إقرار الألسنة، والأخذ الثاني كان على الأرواح بعد خروجها من الوجود العلمي إلى الوجود العيني، فتطورت الأرواح بصفاتها الذاتية، من سمع وبصر ولسان وغيرها، في عالم المثال، بصور مقالية؛ لتُبصر بها ظهور الرب، وتسمع خطابه، وتجيب سؤاله، بإقرارها حينئذٍ إقرار الألسنة، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية‏.‏ وأما العهد الذي أخذه عليها، فلا بد من انضمامه إِلى الأوَّلَين في قيام الحجة، كما تقدم‏.‏

فالموجدات ثلاث‏:‏ علمي، ثم خيالي مثالي، ثم نوعي حسي‏.‏ فَأُخِذَ على كل واحد عهد؛ من الأَوَّلَيْنِ بلا واسطة، والثالث بواسطة الرسل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏175- 178‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏175‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏176‏)‏ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏177‏)‏ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏178‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ أتبعه الشيطانُ‏:‏ أدركه، يقال‏:‏ أتبع القوم‏:‏ لحقهم، ومنه‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ‏}‏ ‏[‏يُونس‏:‏ 90‏]‏، أي‏:‏ لحق بني إسرائيل‏.‏ قاله في الأساس‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏واتلُ عليهم‏}‏؛ على اليهود ‏{‏نبأَ‏}‏ أي‏:‏ خبر ‏{‏الذي آتيناه آيايِنا‏}‏؛ علمًا بكتابنا، ‏{‏فانسَلَخ منها‏}‏؛ بأن كفر بها، وأعرض، ‏{‏فأَتبعه الشيطانُ‏}‏ فأدركه ‏{‏فكان من الغاوين‏}‏‏.‏ قال عبد الله بن مسعود‏:‏ هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين، داعيًا إلى الله، فرشاه الملكُ، وأعطاه المُلك على أن يترك دين موسى، ويُتابع الملكَ على دينه، ففعل وأضل الناس على ذلك‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ هو رجل من الكنعانيين، اسمه‏:‏ «بلعم»، كان عنده الاسم الأعظم، فلما أراد موسى قتل الكنعانيين، وهم الجبارون، سألوه أن يدعو على موسى باسم الله الأعظم، فأبى، فألحوا عليه حتى دعا ألا يدخل المدينة، ودعا موسى عليه‏.‏ فالآيات التي أعطيها، على هذا‏:‏ اسم الله الأعظم، وعلى قول ابن مسعود‏:‏ هو ما علمه موسى من الشريعة‏.‏ قيل‏:‏ كان عنده من صحف إبراهيم‏.‏ وقال عبد الله بن عمرو بن العاص‏:‏ هو أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد أُوتي علمًا وحكمة، وأراد أن يُسلم قبل غزوة بدر، ثم رجع عن ذلك ومات كافرًا، وكان قد قرأ الكتب، وخالط الرهبان، وسمع منهم أن الله تعالى مرسِلٌ رسولاً في ذلك الزمان، فَرَجَا أن يكون هو، فلما بَعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم حسده، وقال‏:‏ ما كنت لأؤمن لرسول من ثقيف‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شئنا لرفعناه‏}‏ إلى منازل الأبرار ‏{‏بها‏}‏ أي‏:‏ بسبب تلك الآيات وملازمتها، ‏{‏ولكنه أخلد إلى الأرض‏}‏ أي‏:‏ مال إلى الدنيا وحطامها، أي‏:‏ أخلد إلى أرض الشهوات، ‏{‏واتبع هواه‏}‏ في إيثار الدنيا واسترضاء قومه، أو صيانة رئاسته وجاهه‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وكان من حقه أن يقول‏:‏ ولكنه أعرض عنها، فأوقع موقعه‏:‏ ‏{‏أخلد إلى الأرض واتبع هواه‏}‏ مبالغةً وتنبيهًا على ما حمله عليه، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏فمثله‏}‏ أي‏:‏ فصفته التي هي مثلٌ في الخسة، ‏{‏كمَثَل الكلب‏}‏ أي‏:‏ كصفته في أخس أحواله، وهو ‏{‏إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث‏}‏ أي‏:‏ يلهث دائمًا، سواء حمل عليه بالزجر والطرد، أو ترك ولم يتعرض له، بخلاف سائر الحيوانات؛ لضعف فؤاده، واللهث‏:‏ إدلاع اللسان من التنفس الشدد، والمراد‏:‏ لازم اللهث، وهو نفي الرفع ووضع المنزلة‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ اللهث‏:‏ هو تنفس بسرعة، وتحريك أعضاء الفم، وخروج اللسان، وأكثر ما يعتري ذلك الحيوانات عند الحر والتعب، وهي حالة دائمة للكلب، ومعنى «إن تحمل عليه»‏:‏ أن تفعل معه ما يشق عليه، من طرد أو غيره، أو تتركه دون أن تحمل عليه، فهو يلهث على كل حال‏.‏

ووجه تشبيه ذلك الرجل به أنه إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال، فضلالته على كل حال‏.‏ ه‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ وذلك أنه زجر في المنام عن الدعاء على موسى، فلم ينزجر، وترك عن الزجر، فلم يهتد‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏.‏ ه‏.‏ أن ذلك الرجل خرج لسانه على صدره، فصار مثل الكلب، وصورته ولهثه حقيقة‏.‏ ه‏.‏ وفعل به ذلك حين دعا على موسى عليه السلام‏.‏ وفي ابن عطية‏:‏ ذكر «المعتمد» أن موسى قتله‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك مَثَل القوم الذين كذَّبوا بآياتنا‏}‏؛ صفتهم كصفة الكلب في لهثه وخسته، أو كصفة الرجل المشبه به، لأنهم إن أنذروا لم يهتدوا، وإن تركوا لم يهتدوا‏.‏ أو شبههم بالرجل في أنهم رأوا الآيات فلم تنفعهم، كما أن الرجل لم ينفعه ما عنده من الآيات‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ يعني‏:‏ أهل مكة كانوا متمنين هادياً يهديهم، فلما جاءهم من لا يشكُّون في صدقه كذبوه، فلم يهتدوا لمَّا تُركوا، ولم يهتدوا أيضًا لما دعوا بالرسول، فكانوا ضالين عن الرسول في الحالتين‏.‏ ه‏.‏

‏{‏فاقصص القصَصَ‏}‏ المذكور على اليهود، فإنها نحو قصصهم، ‏{‏لعلهم يتفكرون‏}‏ تفكرًا يُؤدي إلى الاتعاظ، فيؤمنوا به، فإنَّ هذه القصص لا توجد عند من لم يقرأ إلا بوحي، فيتيقنوا نبوتك‏.‏ ‏{‏ساءَ‏}‏ أي‏:‏ قبح ‏{‏مثلاً‏}‏ مثل ‏{‏القومُ الذين كذَّبوا بآياتنا‏}‏؛ حيث شُبهوا بالكلاب اللاهثة، ‏{‏وأنفسَهم كانوا يظلمون‏}‏ بتعريضها للهلاك‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ إما أن يكون داخلاً في الصلة، معطوفًا على ‏{‏الذين كذبوا‏}‏، بمعنى‏:‏ الذين جمعوا بين تكذيب الآيات وظلم أنفسهم، أو منقطعًا عنها، بمعنى‏:‏ وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم، فإن وباله لا يتخطاها ولذلك قدّم المفعول‏.‏ ه‏.‏

‏{‏مَن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون‏}‏، هو تصريح بأن الهدى والضلال بيد الله تعالى، وأنَّ هداية الله يخص بها بعضًا دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء، والإفراد في الأول والجمع في الثاني؛ لاعتبار اللفظ والمعنى، تنبيهًا على أن المهتدين كواحد؛ لاتحاد طريقهم، بخلاف الضالين‏.‏ والاقتصار في الإخبار عمّن هداه الله بالمهتدي‏:‏ تعظيمٌ لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه، في نفسه، كمال جسيم، ونفع عظيم، لو لم يحصلُ له غيره لكفاه، وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ في الحديث‏:‏ «أشَدُّ النَّاس عَذَابًا يَومَ القِيَامَةِ عَالِمٌ لَم يَنفَعهُ عِلمُه» والعلم النافع هو الذي تصحبه الخشية والمراقبة والتعظيم والإجلال، ويوجب لصاحبه الزهد والسخاء والتواضع والأنكسار، وهو علم التوحيد الخاص، الذي هو مشاهدة الحق‏.‏ وقال الورتجبي في قوله‏:‏ ‏{‏آتيناه آياتنا فانسلخ منها‏}‏‏:‏ ذكر أنه تعالى أعطاه أياته، ولو أعطاه قرب مشاهدته ما انسلخ منه، لأن من رآه أحبه، ومن أحب استأنس به واستوحش مما سواه، فمن ذلك تبين أنه كان مستدرجًا بوجدان آياته، وتصديق ذلك ما أخبر سبحانه من ارتداده عن دينه، واشتغاله بهواه وعداوة كليمه بقوله‏:‏ ‏{‏فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين‏}‏، ولو ذاق طعم حبه لم يلتفت إلى غيره، مُكِرَ به في الأزل، فكان مكره مستدامًا إلى الأبد، فالكرامات الظاهرة عارضه للامتحان بين الأزل والأبد، وعند الأصل القديم لا يعتبر العرض الطارىء‏.‏

ه‏.‏

وقال في الإحياء‏:‏ إن بلعم أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات، فشُبه بالكلب، أي‏:‏ سواء أوتي الحكمة أو لم يؤتها فهو يلهث إلى الشهوات‏.‏ ه‏.‏ وفي ذكر قصته تحذير لعلماء هذه الأمة وصلحائها‏.‏ وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه‏:‏ من أخلدت نفسه إلى أرض الشهوات، وغلبته عن النهوض إلى الطاعات، فدواؤه في حرفين، أحدهما‏:‏ أن يذكر منّة الله عليه بنعمة الإيمان والإسلام، ويقيد هذه النعمة بالشكر، لئلا تفلت من يده، والثاني‏:‏ أن يتوجه إلى الله بالتضرع والاضطرار، آناء الليل والنهار، وفي رمضان راجيًا الإجابة، قائلاً‏:‏ اللهم سَلِّم سَلِّم‏.‏ فإن أهمل هاتين الخصلتين فالشقاوة لازمة له‏.‏ ه‏.‏ بالمعنى لطول العهد به‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏179‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏179‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد ذرأنا‏}‏؛ خلقنا ‏{‏لجهنم كثيرًا من الجن والإنس‏}‏؛ كتبنا عليهم الشقاء في سابق الأزل، فهم من قبضة أهل النار، كما قال‏:‏ «هؤلاء إلى الجنة ولا أُبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي»‏.‏

ثم ذكر علامتهم فقال‏:‏ ‏{‏لهم قلوبٌ لا يفقهون بها‏}‏ المواعظ والتذكير؛ للأكنة التي جعلت عليها، ‏{‏ولهم أعين لا يبصرون بها‏}‏ دلائل وحدانيتنا وكمال قدرتنا، فلا ينظرون بها نظر اعتبار، ‏{‏ولهم آذان لا يسمعون بها‏}‏ الآيات والمواعظ، سماع تأمل وتدبير، ‏{‏أولئك كالأنعام‏}‏ في عدم التفقه والاستبصار، أو في أن هممهم ومشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش، مقصورة عليها، فهممهم في بطونهم وفروجهم، ‏{‏بل هم أضلُّ‏}‏ من الأنعام، لأنها تطلب منافعها وتهرب من مضارها، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة، وأيضًا‏:‏ الأنعام رُفع عنها التكليف فلا تعذب، يخلاف الكافر، وأيضًا‏:‏ البهائم تقبل الرياضة والتأديب لِمَا يراد بها، والكافر عاص على الدوام، ‏{‏أولئك هم الغافلون‏}‏ الكاملون في الغفلة المنهمكون فيها‏.‏

الإشارة‏:‏ النار على قسمين‏:‏ حسية ومعنوية، كما أن الجنة كذلك، فالنار الحسية لتعذيب الأشباح، والنار المعنوية لتعذيب الأرواح، والجنة الحسية لنعيم الأشباح، والمعنوية لنعيم الأرواح‏.‏ النار الحسية معلومة‏.‏ والنار المعنوية هي نار القطيعة وغم الحجاب، وأهلها هم أهل الغفلة، وهم كثير من الجن والإنس، ليس لهم قلوب تجول في معاني التوحيد، وليس لم أعين تنظر بعين الاعتبار، وليس لهم آذان تسمع المواعظ والتذكار، إن هم إلا كالأنعام، غير أن الله تعالى تفضل عليهم برسم الإسلام‏.‏ والجنة الحسية هي جنة الزخارف، والجنة المعنوية هي جنة المعارف، وأعدها الله لقلوب تجول في الأنوار والأسرار، ولأعين تنظر بعين الأعتبار والاستبصار، حتى تشاهد أنوار الواحد القهار، ولآذان تسمع المواعظ والتذكار، وتعي ما تسمع من الحكم والأسرار، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏180‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولله الأسماءُ الحسنى‏}‏ تسعة وتسعين، ‏{‏فادعوه بها‏}‏ أي‏:‏ سموه بها‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ أي‏:‏ سموه بأسمائه، وهذا إباحة لإطلاق الأسماء على الله سبحانه، فأما ما ورد منها في القرآن والحديث فيجوز إطلاقه على الله إجماعًا، وأما ما لم يرد، وفيه مدح ولا تتعلق به شُبهة، فأجاز أبو بكر بن الطيب إطلاقه على الله، ومنع ذلك أبو الحسن الأشعري وغيره، ورأوا أن أسماء الله تعالى موقوفة على ما ورد في القرآن والحديث‏.‏ وقد ورد في حديث الترمذي عدتها، أعني‏:‏ تعيين التسعة والتسعين‏.‏

واختلفت أهل الحديث‏:‏ هل هي مرفوعة أو موقوفة على أبي هريرة‏؟‏ والذي في الصحيح‏:‏ «إنَّ للهِ تِسعَةً وتِسعِينَ اسمًا، مائَةً إلاَ وَاحِدًا، مَن أحصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» وهل الإحصاء بالحفظ أو بالعلم أو بالتخلق أو بالتعلق أو بالتحقق‏؟‏ أقوال‏.‏ قلت‏:‏ كونها موقوفة بعيد جدًا؛ إذ ليس هذا مما يقال بالرأي‏.‏

وسبب نزول الآية‏:‏ إن أبا جهل سمع بعض الصحابة يقرأ، فيذكر الله مرة، والرحمن أخرى، فقال‏:‏ يزعم محمد أن الإله واحد، وها هو يعبد آلهة كثيرة، فنزلت الآية مُبيِّنة أن تلك الأسماء الكثيرة هي لمسمى واحد، ‏{‏الحسنى‏}‏‏:‏ مصدر وُصف به، أو تأنيث أحسن، وحسن أسماء الله هي أنها صفة مدح وتعظيم وتحميد، وقيل‏:‏ الدعاء بها‏:‏ التوسل بكل واحد منها‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وذَرُوا‏}‏ أي‏:‏ اتركوا ‏{‏الذين يُلحدون‏}‏ أي‏:‏ يميلون ‏{‏في أسمائه‏}‏ عن الكمال؛ إما بتعطيلها، أو إنكار شيء منها، وإما بزيادة فيها، مما يوهم نقصًا أو فسادًا‏.‏

قال القشيري‏:‏ الإلحاد‏:‏ هو الميل عن القصد، وذلك على وجهين‏:‏ بالزيادة والنقصان؛ فأهل التمثيل زادوا فألحدوا، وأهل التعطيل نقصوا فألحدوا‏.‏ ه‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ أي‏:‏ اتركوا تسمية الزائغين فيها، الذين يسمونه بما لا توقيف فيه، إذ ربما يوهم معنىً فاسدًا، كقولهم‏:‏ يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، أو لا تبالُوا بإنكارهم ما سمى به نفسه، كقولهم؛ ما نعرف إلا رحمان اليمامة، أو‏:‏ وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام، واشتقاقها منه؛ كاللات من الله، والعزى من العزيز، فلا توافقوهم عليه، أو أعرضوا عنهم ولا تحاوروهم‏.‏ ه‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ قيل‏:‏ معنى ‏{‏ذروا‏}‏‏:‏ اتركوهم فلا تجادلوهم ولا تتعرضوا لهم، فالآية، على هذا، منسوخة بالقتال، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏ذروا‏}‏ للوعيد والتهديد، كقوله‏:‏ ‏{‏وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏، وهو الأظهر‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وهو أليق بقوله بعده‏:‏ ‏{‏سيُجزون ما كانوا يعملون‏}‏ من الإلحاد وغيره‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري بعد كلام‏:‏ ويقال إن الله سبحانه وقف الخلق بأسمائه، فهم يذكرونها قالةً، وتعزَّزَ بذاته، والعقول وإن صَفَت لا تهجم على حقائق الإشراف؛ إذ الإدراك لا يجوز على الحق، فالعقول عند بواده الحقائق متقنعة بنقاب الحيرة عن التعرض للإدراك، وطلبه في أحوال الرؤية‏.‏ والحق سبحانه عزيز باستحقاق نعوت التعالي مُتَفَرِّد‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ وأسماء الله الحسنى كلها تتجلى في مظاهر الإنسان، وتتوارد عليه انفرادًا واجتماعًا، وقد تجتمع في واحد إذا كان عارفًا، كلها بحيث يتخلق بها، غير أن تجلياتها تختلف عليه، تارة ملكًا قدوسًا، وتارة رحمانيًا رحيمًا، وهكذا‏.‏ وقد تقدم بيان كيفية التعلق والتخلق والتحقق بها، في شرحنا‏:‏ الفاتحة الكبير، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏181‏]‏

‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏181‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وممن خلقنا‏}‏ أي‏:‏ ومن جملة ما خلقنا‏:‏ ‏{‏أمة‏}‏‏:‏ طائفة ‏{‏يهدون‏}‏ الناس ‏{‏بالحق‏}‏ ويحملونهم عليه، ‏{‏وبه يَعْدِلُون‏}‏ في حكوماتهم وقضاياهم‏.‏ رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «هذه الآية لكم، وقد تقدم مثلها لقوم موسى»‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ذكر ذلك بعدما ما بيَّن أنه خلق للنار طائفة ضالين، ملحدين عن الحق، للدلالة على أنه خلق أيضًا للجنة أمة، هادين بالحق، عادلين في الأمر، واستدل به على صحة الإجماع، لأن المراد منه أن في كل قرن طائفة بهذه الصفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لاَ تَزالُ مِنْ أمَّتِي طَائِفةٌ عَلى الحَقِّ، إِلى أن يأتيَ أَمرُ اللهِ» إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن لذكره فائدة، فإنه معلوم‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ هذه الأمة التي خلقها الله لهداية خلقه، وهي اطائفة التي لا تزال على الحق، وهي مؤلفة من العلماء الأتقياء على اختلاف أصنافهم وعلومهم، ومن الأولياء العارفين، بالعلماء يهدون إلى التمسك بالشرائع وإتقانها، والأولياء العارفون يهدون إلى التحقق بالحقائق وأذواقها، فالعلماء داعون إلى أحكام الله، والعارفون داعون إلى معرفة ذات الله، العلماء لإصلاح الظواهر، والأولياء لإصلاح البواطن، ولا يقوم هذا إلا بهذا، فالظاهر من غير باطن فسق، والباطن من غير ظاهر إلحاد، وسيأتي عند قوله‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِ فِرْقَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏التّوبَة‏:‏ 122‏]‏ الآية، تمثيل منزلتهم عند الله، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏182- 183‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏182‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏183‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ أصل الاستدراج‏:‏ الاستصعاد، أو الاستنزال درجة بعد درجة، ومعناه‏:‏ نسوقهم إلى الهلاك شيئًا فشيئًا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والذين كذَّبوا بآياتنا‏}‏، وألحدوا في أسمائنا، ‏{‏سَنَسْتَدْرِجُهُم‏}‏ أي‏:‏ ندرجهم إلى الهلاك شيئًا فشيئًا، ‏{‏من حيث لا يعلمون‏}‏ ما نريد بهم، وذلك أَن تتواتر النعم عليهم، فيظنوا أنها لطفٌ من الله بهم، فيزدادوا بطرًا وانهماكًا في الغي، حتى تحق عليه كلمة العذاب‏.‏ ‏{‏وأُملي لهم‏}‏ أي‏:‏ وأمهلهم، أي‏:‏ وأمدهم بالأموال والبنين والعُدة والعَدد، حتى نأخذهم بغتة، ‏{‏إنَّ كيدي متين‏}‏ أي‏:‏ أخذي شديد، وإنما سماه كيدًا لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان‏.‏

الإشارة‏:‏ قال الشيخ زروق رضي الله عنه‏:‏ الاستدراج‏:‏ هو كُمون المحنة في عين المنة، وهو من درج الصبي؛ إذا أخذ في المشي شيئًا بعد شيء، ومنه‏:‏ الدرج الذي يرتقي عليه إلى العلو، كذلك المستدرج هو الذي تُؤخذ منه النعمة شيئًا بعد شيء وهو لا يشعر‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏سَنَسْتدرِجُهُم من حيث لا يعلمون‏}‏‏.‏ ه‏.‏ فالاستدراج ليس خاصًا بالكفار، بل يكون في المؤمنين؛ خواصهم وعوامهم‏.‏

قال في الحكم‏:‏ «خف من وجود إحسانه إليك، ودوام إساءتك معه، أن يكون ذلك استدراجًا لك؛ ‏{‏سَنَسْتَدرِجُهُم من حيث لا يعلمون‏}‏»‏.‏ وقال سهل بن عبدالله رضي الله عنه‏:‏ نمدهم بالنعم، وننسيهم الشكر عليها، فإذا ركنوا إلى النعمة وحجبوا عن المنعم‏:‏ أُخذوا‏.‏

وقال ابن عطاء رضي الله عنه‏:‏ كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم الاستغفار من تلك الخطيئة‏.‏ وقال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه‏:‏ الخوف من الاستدراج بالنعم من صفة المؤمنين، وعدم الخوف منه مع الدوام على الإساءة من صفة الكافرين‏.‏ يقال‏:‏ من أمارات الاستدراج‏:‏ ركوب السيئة والاغترار بزمن المُهلة، وحمل تأخير العقوبة على استحقاق الوصلة، وهذا من المكر الخفي‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏سَنَسْتدرِجُهُم من حيث لا يعلمون‏}‏ أي‏:‏ لا يشعرون بذلك، وهو أن يلقي في أوهامهم أنهم على شيء، وليسوا كذلك، يستدرجهم في ذلك شيئًا فشيئًا، حتى يأخذهم بغتة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما نسوا ما ذُكروا به‏}‏؛ إشارة إلى مخالفتهم وعصيانهم، بعدما رأوا من الشدة، ‏{‏فتحنا عليهم أبواب كل شيء‏}‏ أي‏:‏ فتحنا عليهم أسباب العوافي وأبواب الرفاهية، ‏{‏حتى إذا فرحوا بما أُوتوا‏}‏ من الحظوظ الدنيوية، ولم يشكروا عليها برجوعهم منها إلينا، ‏{‏أخذناهم بغتة‏}‏ أي‏:‏ فجأة، ‏{‏فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 44‏]‏؛ آيسون قانطون من الرحمة‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏184- 186‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏184‏)‏ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏185‏)‏ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏186‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وما خلق‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏ملكوت‏}‏، و‏{‏أن عسى‏}‏‏:‏ مخففة، و‏{‏أن يكون‏}‏‏:‏ مصدرية، أو عطف على ‏{‏ملكوت‏}‏ أيضًا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أوَ لم يتفكروا‏}‏ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم؛ حتى يتحققوا أنه ‏{‏ما بصاحبهم من جِنَّة‏}‏؛ يعني‏:‏ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم‏.‏ رُوِي أنه صلى الله عليه وسلم لما أُمر بالإنذار صعد الصَّفا، فدعاهم، فَخْذًا فخذًا، يُحذّرهم بأس الله تعالى، فقال قائلهم‏:‏ إن صاحبكم لمجنون، بات يُصوِّت إلى الصباح، فنزلت‏.‏

‏{‏إن هو إِلا نذير مبين‏}‏ أي‏:‏ بيّن الإنذار واضح أمره، لا يخفى على ناظر‏.‏ ‏{‏أو لم ينظروا‏}‏ نظر استدلال ‏{‏في ملكوت السماوات والأرض‏}‏ أي‏:‏ في عظمتهما وما اشتملتا عليه من العجائب، ‏{‏وما خَلَق الله من شيء‏}‏ أي‏:‏ وينظروا فيما خلق الله من شيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها، لتدلهم على كمال قدرة صانعها ووحدة مبدعها، وعظم شأن مالكها ومتولي أمرها، ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه‏.‏

‏{‏وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلُهم‏}‏ أي‏:‏ أوَ لم ينظروا أيضًا في اقتراب أجلهم وتوقع حلول الموت بهم، فيسارعوا إلى طلب الحق، والتوجه إلى ما ينجيهم من عذابه، قبل مفاجأة الموت ونزول العذاب‏.‏ ‏{‏فبأي حديث بعده‏}‏ أي‏:‏ بعد القرآن، ‏{‏يُؤمنون‏}‏ إن لم يؤمنوا به، وهو النهاية في البيان‏؟‏ كأنه إخبار عنهم بالطبع على القلوب والتصميم على الكفر، بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر، وقيل‏:‏ هو متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلُهم‏}‏؛ كأنه قيل‏:‏ لعل أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يُبادرون بالإيمان بالقرآن، وماذا ينتظرون بعد وضوحه‏؟‏ وإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به‏؟‏‏!‏‏.‏‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

ثم بيَّن أن أمرهم بيده، فقال‏:‏ ‏{‏من يُضلل الله فلا هاديَ له‏}‏ أصلاً، ولا يقدر أحد عليه، ‏{‏ونذرهم في طُغيانهم يعمهون‏}‏‏:‏ يتحيرون‏.‏ ومن قرأ بالياء فمناسب لقوله‏:‏ ‏{‏من يضلل‏}‏، ومن جزمه فعطف على محل‏:‏ ‏{‏فلا هادي له‏}‏؛ لأنه جواب الشرط‏.‏

الإشارة‏:‏ قد أرشد الحق تعالى عباده إلى التفكر والاعتبار، وقد تقدم الكلام عليه في «آل عمران»، وقد علَّم هنا أهل الاستدلال كيفيته؛ وهو أن ينظر الإنسان في آمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وما ظهر على يديه من المعجزات وخوارق العادات، وأعظمها القرآن العظيم، ثم ما أتى به من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، وما نطق به من الحكم العجيبة، وما أخبر به من قصص الأمم الدارسة والشرائع المتقدمة، مع كونه أميًّا لم يقرأ ولم يكتب، ولم يجالس أحدًا ممن له خبرة بذلك، فتطلع عليه شمس المعرفة به حتى لا يخالطه وهمٌ، ولا يخطر بساحته خاطر سوء، ثم يتفكر في عجائب ملكوت السماوات والأرض، وما اشتملتا عليه من ضروب المصنوعات، وعجائب المخلوقات، فيتحقق بوجود الصانع القادر على كل شيء، هذا إن لم يجد شيخًا يُخرجه من سجن الدليل، وإن وجده استغنى عن هذا بإشراق شمس العرفان، والخروج إلى فضاء الشهود والعيان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏187‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ إنما سميت القيامة ساعة‏:‏ لسرعة حسابها، أو وقوعها، لقوله‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ‏}‏ ‏[‏النّحل‏:‏ 77‏]‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يسألونك‏}‏ أي‏:‏ قريش، ‏{‏عن الساعة‏}‏ أي‏:‏ قيام الناس من قبورهم للحساب، ‏{‏أيَّان مُرسَاها‏}‏ أي‏:‏ متى إرساؤها، أي‏:‏ ثبوتها ووقوعها‏؟‏ ‏{‏قل إنما علمها عند ربي‏}‏؛ استأثر بعلمها، لم يطلع عليها ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلاً ‏{‏لا يُجلِّيها لوقتها‏}‏ أي‏:‏ لا يُظهرها عند وقت وقوعها، ‏{‏إلا هو‏}‏، والمعنى إن إخفاءها يستمر إلى وقت وقوعها، ‏{‏ثَقُلَت في السماوات والأرض‏}‏؛ عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها، وكأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها‏.‏ أو ثَقُلَت على السماوات والأرض أنفسهما؛ لتبدلهما وتغير حالهما، ‏{‏لا تأتيكم إلا بغتةً‏}‏‏:‏ فجأة على غفلة، كما قال صلى الله عليه وسلم «إنَّ الساعَة تَهِيجُ بالنَّاسِ، والرَّجُلُ يُصلِحُ حَوضَهُ، والرَّجُلُ يَسقِي مَاشِيتَهُ، والرَّجلُ يُقَوَّم سِلعَته في سُوقِه، والرَّجُل يَخفِضُ مِيزَانَهُ ويرفعه» والمراد‏:‏ النفخ في الصور للصعق، لأن الساعة مُرَتَّبة عليه وقريبة منه‏.‏

‏{‏يسألونك كأنك حَفِيٌّ عنها‏}‏ أي‏:‏ عالم بها، من حفى على الشيء‏:‏ إذا سأل عنه، فإنَّ من بالغ في السؤال عن الشيء، والبحث عنه، استحكم علمه فيه، أي‏:‏ يسألونك عن وقت قيامها، كأنك بليغ في السؤال عنها فعلمتها، وليس كما يزعمون، وأما قوله‏:‏ ‏{‏فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَآ‏}‏ ‏[‏النَّازعَات‏:‏ 43‏]‏‏:‏ فقيل‏:‏ معناه‏:‏ التعجب عن كثرة اهتمامه بالسؤال، أي‏:‏ في أي شغل أنت من ذكراها والسؤال عنها‏؟‏ ولا يُعارض ما هنا؛ لأنه استغنى عن ذلك بتلك الآية، وبعدها نزلت هذه، والله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ «عنها»‏:‏ يتعلق ب ‏{‏يسألونك‏}‏، أي‏:‏ يسألونك عنها كأنك حفي بهم، أي‏:‏ شفيق بهم، قيل‏:‏ إن قريشًا قالوا‏:‏ إنَّ بيننا وبينك قرابة، فقل لنا‏:‏ متى الساعة‏؟‏ فقال له الحق تعالى‏:‏ ‏{‏قبل إنما علمها عند الله‏}‏؛ لا يعلمها غيره، وكرره؛ لتكرر «يسألونك»‏.‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ أن علمها عند الله لم يؤته أحدًا من خلقه‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا أشرق نور اليقين في القلب صارت الأمور المستقبلة حاصلة، والغائبة حاضرة، والآجلة عاجلة، فأهل اليقين الكبير قدّموا ما كان آتيًا، فحاسبوا أنفسهم قبل أن يُحاسبوا، ووزنوا أعمالهم قبل أن تُوزن عليهم، وجازوا الصراط بلسوكهم المنهاج المستقيم، ودخلوا جنة المعارف قبل حصول جنة الزخارف، فالموت في حقهم إنما هو انتقال من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، ومن دار الغرور إلى دار الهناء والسرور‏.‏ وفي الحِكم‏:‏ «لو أشرق لك نور اليقين في قلبك، لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها، ولرأيت محاسن الدنيا قد ظهرت كسفة الفَنَاء عليها»‏.‏

قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه‏:‏ نور اليقين تتراءىء به حقائق الأمور على ما هي عليه، فيحق به الحق، ويبط به الباطل، والآخرة حق، والدنيا باطل، فإذا أشرق نور اليقين في قلب العبد أبصر به الآخرة التي كانت غائبة عنه حاضرة لديه، حتى كأنها لم تزل، فكانت أقرب إليه من أن يرتحل إليها، فحق بذلك حقها عنده، وأبصر الدنيا الحاضرة لديه، قد انكسف نورها وأسرع إليها الفناء والذهاب، فغابت عن نظره بعد أن كانت حاضرة، فظهر له بطلانها، حتى كأنها لم تكن، فيوجب له هذا النظر اليقيني الزهادة في الدنيا والتجافي في زهرتها، والإقبال على الآخرة، والتهيؤ لنزول حضرتها، ووجدان العبد لهذا هو علامة انشراح صدره بذلك النور‏.‏

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ النورَ إذا دَخَلَ القلبَ انشرحَ له الصَّدرُ وانفسَحَ»، وقِيلَ يا رَسُولَ اللهِ‏:‏ هَل لذلكَ مِن عَلامَةٍ يُعرَفُ بِها‏؟‏ قال‏:‏ «نعَمَ‏.‏ التَّجَافي عَن دَارِ الغُرُورِ، والإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ، والاستِعدَادُ للمَوتِ قَبل نُزُولهِ» أو كما قال صلى الله عليه وسلم‏.‏

وعند ذلك تموت شهواته وتذهب دواعي نفسه، فلا تأمره بسوء، ولا تطالبه بارتكاب منهي، ولا تكون لهم همة إلا المسارعة إلى الخيرات، والمبادرة لاغتنام الساعات والأوقات، وذلك لاستشعاره حلول الأجل، وفوات صالح العمل، وإلى هذا الإشارة بحديثي حارثة ومعاذ رضي الله عنهما‏.‏ رَوى أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ استقبله شابٌ من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كَيْفَ أصبحَتَ يا حارثةٌ‏؟‏» قال‏:‏ أصبحت مؤمنًا بالله حقًا، قال‏:‏ «انظر ما تقول، فإن لكلِّ قَولٍ حقيقة‏؟‏» فقال‏:‏ يا رسولَ الله عَزَفت نَفسِي عن الدنيا فأسهَرْتُ لَيلي وأظمَأتُ نهاري، وكأني بعَرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهلِ الجنّةِ يَتَزَاوَرُون فيها، وكأني أنظرُ إلى أهل النار يتعاوون فيها، فقال‏:‏ «أبصَرتَ فالزَم، عَبدٌ نور اللهُ الإيمانَ في قلبه‏.‏‏.‏» إلى آخر الحديث‏.‏

وروى أنس رضي الله عنه أيضًا‏:‏ أن معاذَ بن جبل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال له‏:‏ «كيف أصبحتَ يا معاذ‏؟‏» فقال‏:‏ أصبحتُ بالله مؤمنًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ لكل قول مصداقًا، ولكل حق حقيقة، فما مصداق ما تقول‏؟‏» فقال‏:‏ يا نبيَّ اللهِ، ما أصبحتُ صباحًا قط إلا ظننتُ أني لا أُمسي، ولا أمسَيتُ قط إلا ظننت إني لا أُصبِح، ولا خَطَوتُ خطوةً قط إلا ظننتُ أني لا أُتبِعُها أُخرَى، وكأني أنظرُ إلى كل أمةٍ جاثية تُدعى إلى كتابها، معها نبيُها وأوثَانُها التي كانت تعبدُ من دون اللهِ، وكأني أنظرُ إلى عُقُوبَةِ أهلِ النَّارِ وثوابِ أهلِ الجنة‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عَرَفَت فالزَم» انظر بقية كلامه رضي الله عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏188‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وما مسني السوء‏}‏‏:‏ عطف على «استكثرتُ»، أي‏:‏ لو علمتُ الغيب لاستكثرتُ الخير واحترست من السوء، أو استئناف، فيوقف على ما قبله، ويراد حينئذٍ بالسوء‏:‏ الجنون، والأول أحسن؛ لاتصاله بما قبله، و‏{‏لقوم‏}‏‏:‏ يجوز أن يتعلق ببشير ونذير، أي‏:‏ أُبشر المؤمنين وأُنذرهم، وخصهم بالبشارة والنذارة لانتفاعهم بهما، ويجوز أن يتعلق بالبشارة وحدها، فيُوقف على ‏{‏نذير‏}‏، ويكون المتعلق بنذير محذوف، أي‏:‏ نذير للكافرين، والأول أحسن‏.‏ قاله ابن جزي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ أنا ‏{‏لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضَرًا‏}‏ أي‏:‏ لا أجلب لها نفعًا ولا أدفع عنها ضررًا، ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ من ذلك، فيعلمَني به، ويوقفني عليه، وهو إظهار للعبودية والتبري من ادعاء العلم بالغيوب، ‏{‏ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء‏}‏ أي‏:‏ لو كنت أعلم ما يستقبلني من الأمور المغيبة؛ كشدائد الزمان وأهواله، لاستعددت له قبل نزوله باستكثار الخير والاحتراس من الشر، حتى لا يمسني سوء، ‏{‏إن أنا إَلا نذير وبشير‏}‏ أي‏:‏ ما أنا إلا عبد مرسل بالإنذار والبشارة ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏؛ فإنهم المنتفعون بهما، أو نذير لمن خالفني بالعذاب الأليم، وبشير لمن تبعني بالنعيم المقيم‏.‏

الإشارة‏:‏ العبودية محل الجهل وسائر النقائص، والربوبية محل العلم وسائر الكمالات، فمن آداب العبد أن يعرف قدره، ولا يتعدى طوره، فإن ورد عليه شيء من الكمالات فهو وارد من الله عليه، وإن ورد عليه شيء من النقائص فهو أصله ومحله، فلا يستوحش منه، وكان شيخنا يقول‏:‏ إن علمنَا فمن ربنا، وإن جهلنا فمن أصلنا وفصلنا‏.‏ أو كلام هذا معناه، فالاستشراف إلى الاطلاع على علم الغيوب من أكبر الفضول، وموجب للمقت من علام الغيوب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 190‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏189‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏190‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدة‏}‏؛ آدم عليه السلام، ‏{‏وجعل منها زوجها‏}‏ أي‏:‏ خلق من ضلعها زوجها حواء، سلها منه وهو نائم، ‏{‏ليَسكُنَ إليها‏}‏؛ ليستأنس بها، ويطمئن بها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه‏.‏

‏{‏فلما تغشاها‏}‏ أي‏:‏ جامعها حين رُكبت فيه الشهوة، ‏{‏حملت حملاً خفيفًا‏}‏ أي‏:‏ خف عليها، ولم تلق منه ما تلقى بعضُ الحبالى من حملهن من الأذى والكرب، أو حملاً خَفيفًا، يعني النطفة قبل تصورها، ‏{‏فمرت به‏}‏ أي‏:‏ ذهبت وجاءت به، مخففة، واستمرت إلى حين ميلاده، ‏{‏فلما أثقلت‏}‏ أي‏:‏ ثقل حملها وصارت به ثقيلة لكبره في بطنها، ‏{‏دَعَوا الله ربهما‏}‏ آدم وحواء، قائلين‏:‏ ‏{‏لئن آتيتنا‏}‏ ولدًا ‏{‏صالحًا‏}‏ أي‏:‏ سويًا سالمًا في بدنه، تام الخلقة، ‏{‏لنكونن‏}‏ لك ‏{‏من الشاكرين‏}‏ على هذه النعمة المجددة‏.‏

‏{‏فلما آتاهما‏}‏ ولدًا ‏{‏صالحًا‏}‏ كما سألا، جعل أولادُهما ‏{‏له شركاءَ فيما آتاهما‏}‏، فسموا عبد العزى وعبد مناف وعبد الدار‏.‏ فالآية إخبار بالغيب في أحوال بني آدم ممن كفر منهم وأشرك، ولا يصح في آدم وحواء هذا الشرك؛ لعصمة الأنبياء، وهذا هو الصحيح‏.‏ وقد يُعاتبُ المِلكُ الأب على ما فعل أولادهُ، كما إذا خرجوا عن طاعته فيقول له‏:‏ أولادك فعلوا وفعلوا، على عادة الملوك‏.‏

وقيل‏:‏ لما حملت حواء أتاها إبليسُ في صورة الرجل، فقال لها‏:‏ وما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب، وما يدريك من أين يخرج‏؟‏ فخافت من ذلك، ثم قال لها‏:‏ إن أطعتيني، وسميته عبد الحارث، فسأخلصه لك، وكان اسم إبليس في الملائكة‏:‏ الحارث، وإن عطيتني قتلته، فأخبرت بذلك آدم، فقال لها‏:‏ إنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة، فلما ولدت مات الولد، ثم حملت مرة أخرى، فقال لها إبليس مثل ذلك، فعصته، فلما ولدت مات الولد، ثم حملت مرة ثالثة، فسمياه عبد الحارث؛ طمعًا في حياته فقوله‏:‏ ‏{‏جعلا له شركاء فيما آتاهما‏}‏ أي‏:‏ في التسمية لا غير، لا في عبادة غير الله‏.‏

والقول الأول أصح، لثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أنه يقتضي براءة آدم وحواء من الشرك، قليله وكثيره، وذلك هو حال الأنبياء عليه السلام‏.‏ والثاني‏:‏ أنَّ جمع الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فتعالى الله عما يشركون‏}‏، يقتضي أن الشرك وقع من أولادهما، لا منهما‏.‏ الثالث‏:‏ أن هذه القصة تفتقر إلى نقل صحيح، وهو غير موجود‏.‏ انظر‏:‏ ابن جزي‏.‏

الإشارة‏:‏ قال الورتجبي‏:‏ في قوله ‏{‏ليسكن إليها‏}‏‏:‏ لم يجد آدم عليه السلام في الجنة إلا سنًا تجلى الحق، فكاد أن يضمحل بنور التجلي، لتراكمه عليه، فعلم الله سبحانه أنه لا يتحمل أثقال التجلي، وعرف أنه يذوب في نور حسنه، وكل ما في الجنة مستغرق في ذلك النور، فيزيد عليه ضوء الجبروت والملكوت، فخلق منه حواء ليسكن آدم إليها، ويستوحش بها سُوَيعات من سطوات التجلي، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها‏:‏ «كلميني يا حُميراء» ثم قال‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ خلقها ليسكن آدم إليها، فلما سكن إليها غفل عن مخاطبة الحقيقة، بسكونه إليها، فوقع فيما وقع من تناول الشجرة‏.‏ ه‏.‏ فكل من سكن إلى غير الله تعالى كان سكونه بلاء في حقه، يخرجه من جنة معارفه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏191- 195‏]‏

‏{‏أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏191‏)‏ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏192‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ‏(‏193‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏194‏)‏ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏195‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أيُشرِكون‏}‏ مع الله أصنامًا جامدة، لا يخلقون شيئًا ‏{‏وهم يُخلَقون‏}‏، فهي مخلوقة غير خالقة‏.‏ والله تعالى خالق غير مخلوق، ‏{‏ولا يستطيعون لهم نصرًا‏}‏ أي‏:‏ لا يقدرون أن ينصروا من عبدهم، ‏{‏ولا أنفسَهم ينصرون‏}‏ فيدفعون عنها ما يعتريها، فهي في غاية العجز والذلة، فكيف تكون آلهة‏؟‏‏.‏

‏{‏وإِن تدعوهم إلى الهُدى لا يتبعوكم‏}‏ أي‏:‏ وإن تدعو الأصنام إلى الهدى لا تجيبكم، فلا تهتدي إلى ما دعيت إليه؛ لأنها جمادات، أو‏:‏ وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى الحق لا تجيبكم، ‏{‏سواءٌ عليكم أدَعوتُموهم أم أنتم صامتون‏}‏ عن دعائهم، فالدعاء في حقهم وعدمه سواء، وإنما لم يقل‏:‏ أم صمتم؛ ليفيد الاستمرار على عدم إجابتهم‏:‏ لأن الجملة الاسمية تقتضي الاستمرار‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين تدعون من دون الله‏}‏ أي‏:‏ تعبدونهم وتسمونهم آلهة من دون الله، هم ‏{‏عبادٌ أمثالُكم‏}‏ من حيث أنها مسخرة مملوكة، فكيف يعبد العبد مع ربه، ‏{‏فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين‏}‏ في أنها تستحق أن تُعبد، والأمر للتعجيز؛ لأن الأصنام لا تقدر أن تجيب فلا تستحق أن تعبد‏.‏

ثم عاد عليهم بالنقض فقال‏:‏ ‏{‏ألهُم أرجلٌ يمشون بها أم لهم أيدٍ يبشطون بها أم لهم أعينٌ يبصرون بها أم لهم آذانٌ يسمعون بها‏}‏، ومعناه‏:‏ أن الأصنام جمادات عادمة للحس والجوارح والحياة، ومن كان كذلك لا يكون إلهًا، فإنَّ من وصف الإله الإدراك والحياة والقدرة‏.‏ وإنما جاء هذا البرهان بلفظ الاستفهام؛ لأن المشركين مقرون أن أصنامهم لا تمشي، ولا تبطش، ولا تبصر، ولا تُسمع، فلزمتهم الحجة، والهمزة في قوله‏:‏ ‏{‏ألهم‏}‏‏:‏ للاستفهام مع التوبيخ، و‏{‏أم‏}‏، في المواضع الثلاثة‏:‏ تضمنت معنى الهمزة ومعنى بل، وليس عاطفة‏.‏ قاله ابن جزي‏:‏ ‏{‏قل ادعوا شركاءَكم‏}‏؛ استعينوا بهم في عداوتي، ‏{‏ثم كِيدُون فلا تُنظِرُون‏}‏ أي‏:‏ لا تؤخرون، فإنكم وأصنامكم لا تقدرون على مضرتي وكيدي، ومفهوم الآية‏:‏ الرد عليهم ببيان عجز أصنامهم وعدم قدرتها على المضرة‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما سوى الله قد عمه العجز والتقصير، فليس بيده نفع ولا ضر، وفي الحديث‏:‏ «لو اجتَمَعَ الإنسُ والجنُّ على أن ينفَعُوكَ بشَيءٍ لم يَنفَعُوكَ إلاَّ بشَيءٍ قد كَتَبَه اللهَ لك، ولو اجتَمَعُوا على أَن يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لم يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدَّرَهُ اللهُ عليكَ» أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالخلق كلهم في قبضة القهر، مصروفون بقدرة الواحد القهار، ليس لهم أرجل يمشون بها، ولا أيد يبطشون بها، ولا أعين يبصرون بها، ولا آذان يسمعون بها، وإنما هم مجبورون في قوالب المختارين، فلا تركن إليهم أيها العبد في شيء، إذ ليس بيدهم شيء، ولا تخف منهم في شيء، إذ لا يقدرون على شيء‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ وفيها أي‏:‏ في الآية إشارة إلى التوكل على الله والاعتصام به وحده، وأن غيره لا يقدر على شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏196‏]‏

‏{‏إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ‏(‏196‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ قل لهم أيضًا يا محمد‏:‏ ‏{‏إنَّ وَليّيَ اللهُ‏}‏ أي‏:‏ هو ناصري وحافظني منكم، فلا تضرونني ولو حرصتم أنتم وآلهتكم، ‏{‏الذي نزَّل الكتاب‏}‏ أي‏:‏ القرآن، ‏{‏وهو يتولى الصالحين‏}‏ أي‏:‏ ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلاً عن أنبيائه، فلا أخافكم بعد أن تَولى حفظي منكم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ مَن قام بحقِّ الله تولّى أمورَه على وجه الكفاية، فلا يحوجه إلى أمثاله، ولا يَدَعُ شيئًا من أحواله إلا أجراه على ما يريد بحُسنِ إفضاله، فإن لم يفعل ما يريده جعل العبد راضيًا بما يفعله، فرَوحُ الرضا على الأسرار أتَمُّ من راحة العطاء على القلوب‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏197- 198‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏197‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏198‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في إتمام الرد على المشركين‏:‏ ‏{‏والذين تدعون من دونه‏}‏ أي‏:‏ تعبدونها من دونه، ‏{‏لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون‏}‏، فلا تُبال بهم أيها الرسول، ‏{‏إن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا‏}‏، يحتمل أن يريد الأصنام، فيكون تحقيرًا لها، وردًا على عبدها؛ فإنها جماد موات لا تسمع شيئًا، أو يريد الكفار، ووصفهم بأنهم لا يسمعون، يعني‏:‏ سمعًا ينتفعون به، لإفراط نفورهم، أو لأن الله طبع على قلوبهم، ‏{‏وتراهم‏}‏ أي‏:‏ الأصنام، ‏{‏ينظرون إليك وهم لا يُبصرون‏}‏؛ لأنهم مصورورن بصورة من ينظر، فقوله‏:‏ ‏{‏وتراهم ينظرون إليك‏}‏‏:‏ مجاز، ‏{‏وهم لا يُبصرون‏}‏ حقيقةً، لأن لهم صورة الأعين، وهم لا يرون بها شيئًا، هذا إن جعلنا وصفًا للأصنام، وإن كان وصفًا للكفار فقوله‏:‏ ‏{‏وتراهم ينظرون إليك‏}‏ حقيقة، ‏{‏وهم لا يُبصرون‏}‏ مجاز، لأن الأبصار وقع منهم في الحس، لكن لمَّا لم ينفعهم؛ لعمى قلوبهم، نفاه عنهم كأنه لم يكن‏.‏

قال المحشي‏:‏ شاهدوا بأبصار رؤوسهم، لكنهم حجبوا عن الرؤية ببصائر أسرارهم وقلوبهم، فلم يعتد برؤيتهم‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية تحويش للعبد إلى الأعتماد على الله واستنصاره به جميع أموره، فلا يركن إلى شيء سواه، ولا يخاف إلا من مولاه، إذ لا شيء مع الله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتراهم ينظرون إليك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ قال المحشي‏:‏ يقال‏:‏ رُؤية الأكابر ليست بشهود أشخاصهم، لكن لِما يحصل للقلوب من مكاشفة الغيوب، وذلك على مقدار الاحترام وحضور الإيمان‏.‏ ه‏.‏ يعني‏:‏ أن النظر إلى الأكابر، من العارفين بالله، ليست مقصودة لرؤية أشخاصهم، وإنما هي مقصودة لفيضان أمدادهم، وذلك على قدر التعظيم والاحترام، وصدق المحبة والاحتشام، فكل واحد من الناظرين إليهم يغرف على قدر محبته وتعظيمه‏.‏ رُوِي أن بعض الملوك زار قبر أبي يزيد البسطامي، فقال‏:‏ هل هنا أحد ممن أدرك الشيخ أبا يزيد البسطامي‏؟‏ فأتى بشيخ كبير، فقال‏:‏ أنت أدركته، فقال‏:‏ ما سمعتَه يقول‏؟‏ فقال‏:‏ سمعتُه يقول‏:‏ ‏(‏من رآني لا تأكله النار‏)‏‏.‏ فقال الملك‏:‏ هذا لم يكن للنبي عليه الصلاة والسلام؛ فقد رآه كثير من الكفار فدخلوا النار، فكيف يكون لغيره‏؟‏ فقال له الشيخ‏:‏ يا هذا، الكفار لم يروه صلى الله عليه وسلم على أنه رسول الله، وإنما رأوه على أنه محمد بن عبد الله، فسكت‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏199- 200‏]‏

‏{‏خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ‏(‏199‏)‏ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏200‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏خُذ العفوَ‏}‏ أي‏:‏ اليسر من أخلاق الناس ولا تبحث عنها، أو‏:‏ خذ من الناس، في أخلاقهم وأموالهم ومعاشرتهم، ما سهل وتيسر مما لا يشق عليهم؛ لئلا ينفروا‏.‏ فهو كقول الشاعر‏:‏

خُذِ العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمي مَوَدَّتِي‏.‏‏.‏‏.‏ *** أو‏:‏ خذ في الصدقات ما سهل على الناس من أموالهم وهو الوسط، ولا تأخذ كرائم أموالهم مما يشق عليهم، أو تمسك بالعفو عمن ظلمك ولا تُعاقبه، وهذا أوفق لتفسير جبريل الآتي، ‏{‏وأْمر بالعُرْفِ‏}‏ أي‏:‏ المعروف، وهو أفعال الخير، أو العرف الجاري بين الناس‏.‏ واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعرف الذي يجري بين الناس‏.‏ ‏{‏وأعرض عن الجاهلين‏}‏ أي‏:‏ لا تكافىء السفهاء على قولهم أو فعلهم، واحلم عليهم‏.‏ ولمّا نَزَلَت سأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ عنها، فقال‏:‏ «لا أَدري حَتَّى أسأَلَ، فعرج، ثم رَجَعَ فَقَالَ‏:‏ يا مُحَمَدَّ، إِنَّ الله يَأمُركَ أن تَصِلَ مَن قَطَعَك، وتُعطِي مَن حَرَمَكَ، وتَعفُو عَمَّن ظَلَمَكَ»‏.‏ وعن جعفر الصادق‏:‏ ‏(‏أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بمكارم الأخلاق‏)‏، وهي على هذا ثابتة الحكم، وهو الصحيح‏.‏ وقيل‏:‏ كانت مداراة للكفار، ثم نسخت بالقتال‏.‏

‏{‏وإِمَا يَنزَغَنَّك من الشيطان نَزغٌ‏}‏؛ ينخسنك منه نخس، أي‏:‏ وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به؛ كاعتراء غضب، ومقابلة سفيه، ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ والتجىء إليه؛ ‏{‏إنه سميعٌ عليمٌ‏}‏ يسمع استعاذتك، ويعلم ما فيه صلاح أمرك، فالاستعاذة عند تحريك النفس مشروعة، وفي الحديث‏:‏ أن رجلاً اشتد غضبه، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّي لأَعلَمُ كلِمة لو قالَهَا لذَهَبَ عنهُ ما به؛ أعُوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم تُؤمر به أمته، وخصوصًا ورثته من الصوفية، فهم مطالبون بالتخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم أكثر من غيرهم، لأن غيرهم لم يبلغ درجتهم‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ ‏{‏خذ العفو‏}‏‏:‏ أي‏:‏ فاعف عنهم من قلة عرفانهم حقك، ‏{‏وأمر العُرف‏}‏ أي‏:‏ تلطف عليهم في أمرك ونهيك لهم، فإنهم ضعفاء عن حمل وارد أحكام شرائعك وحقائقك، ‏{‏وأعرِض عن الجاهلين‏}‏ الذي ليس لهم استعداد النظر إليك، ولا يعرفون حقوقك، فإنَّ منكر معجزات أنبيائي وكرامات أوليائي لا يبلغ إلى درجة القوم‏.‏ قال بعض المشايخ حين ذكر أهل الظاهر‏:‏ دع هؤلاء الثقلاء‏.‏ ه‏.‏ فوصف علماء الظاهر بالثقلاء؛ لثقل ظهورهم بعلم الرسوم، فلم ينهضوا إلى حقائق العلوم ودقائق الفهوم، وفي تائية ابن الفارض‏:‏

وجُزْ مُثَقلاً لو خَفَّ طَفَّ مُوكلاًّ *** بمَنْقُولِ أَحْكَامٍ ومَعْقُولِ حِكْمَه

قال شارحه‏:‏ أمره بالمجاوزة عن المثقلين بأثقال العلوم الظاهرة، من الفقهاء، والمتكلمين بأحكام المنقولات، والفلاسفة الموكلين بالمعقولات والحكمة، ووصف مُثقلاً بأنه‏:‏ لو خف طفا، أي‏:‏ لأنه لو كان خفيفًا بوضع الأثقال عنه كان طفيفًا، لا يرى لنفسه قدرًا، واللازم منتف فالملزوم مثله‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏201- 202‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ‏(‏201‏)‏ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ‏(‏202‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الطيف بسكون الياء‏:‏ مصدر طاف به الخيال يطيف طيفًا، أو مخفف؛ من طيّف؛ كهين ولين وميت‏.‏ ومن قرأ ‏{‏طائف‏}‏‏:‏ فاسم فاعل، والمراد به‏:‏ لَمَّةُ الشيطان ووسوسته‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏تذكروا‏}‏؛ للعموم على ما يأتي في المعنى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإذا هم مبصرون‏}‏‏:‏ أتى بإذا الفجائية؛ ليقتضي سرعة تيقظهم، وبالجملة الاسمية ولم يقل‏:‏ تذكروا فأبصروا؛ ليفيد أنهم كانوا على البُصرى، وإنما السَّنة طرقتهم ثم رجعوا عنها‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين اتَّقَوا‏}‏ الشرك والمعاصي، ‏{‏إذا مسَّهُم طائفٌ من الشيطان‏}‏ أي‏:‏ لَمَّةُ منه، كما في الحديث‏:‏ «إنَّ للشَّيطَانِ لَمّةٌ وللمَلكِ لَمّةَ‏.‏‏.‏‏.‏» الخ، فإذا أخذتهم تلك السنة وغفلوا ‏{‏تذكّروا‏}‏ عقابَ الله وغضبه، أو ثواب الله وإنعامه، أو مراقبته والحياء منه، أو مننه وإحسانه، أو طرده وإبعاده، أو حجبه وإهماله، أو عدواة الشيطان وإغواءه، كلٌ على قدر مقامه، فلما تذكروا ذلك ‏{‏فإذا هم مبصرون‏}‏ بسبب ذلك التذكر، أي‏:‏ فإذا هم على بصيرة من ربهم التي كانوا عليها قبل المس، أو‏:‏ فإذا هم مبصرون مواقع الخطأ ومكائد الشيطان فيحترزون منها، ولا يعودون إليها بخلاف المنهمكين في الغفلة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإِخوانُهم يَمدُّونهم في الغَي‏}‏ أي‏:‏ وإخوان الشياطين، الذين لم يتقوا، يمدونهم، أي‏:‏ ينصرونهم، ويكونون مددًا لهم في الضلال والغي؛ بالتزيين والحمل عليه، ‏{‏ثم لا يُقصرون‏}‏؛ لا يُمسكون عن إغوائهم حتى يُوردوهم النار، أو‏:‏ لا يقصر الكفار عن غيهم وضلالهم حتى يهلكوا‏.‏

الإشارة‏:‏ البصيرة حارسة للقلب، الذي هو بيت الرب، فإذا نامت طرقها الشيطان، فإن كان نومها خفيفًا أحست به وطردته، وهذه بصيرة المتقين، الذين ذكرهم الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا‏}‏، وإذا كان نومها ثقيلاً سرق الشيطان ما فيها، ولم تفطن به، وهذه بصيرة الغافلين، الذين هم أخوان الشياطين‏.‏

قال القشيري‏:‏ إنما يمس المتقين طيفُ الشيطان في ساعات غفلتهم عن ذكر الله، ولو أنهم استداموا ذكر الله بقلوبهم لما مسَّهم طائف الشيطان، فإن الشيطانَ لا يَقَربُ قلبًا في حال شهوده الله؛ لأنه يخنس عند ذلك، ولكل عازمٍ فترة، ولكلِّ عالم هفوة، ولكل عابد شدة، ولكل قاصد فترة، ولكل سائر وقفة، ولكل عارفٍ جحبة‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الحِدَّةُ تعتري خيار أمتي» فأخبر بأن خيار الأمة، وإن جلت رتبتهم، لا يتخلصون عن حدة تعتريهم في بعض أحوالهم، فتخرجهم عن دوام الحلم‏.‏ ه‏.‏ وكأنه يشير إلى أن طائف الشيطان يمس الواصلين والسائرين، وهو كذلك بدليل أول الآية في قوله‏:‏ ‏{‏وإما ينزغنك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ومسه للسائر أو الواصل زيادة به، وترقية له، وتحويش له إلى ربه، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏203‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا لم تأْتِهم‏}‏ أي‏:‏ الكفار، ‏{‏بآية‏}‏؛ بمعجزة مما اقترحوا، أو من القرآن حين يتأخر الوحي، ‏{‏قالوا لولا‏}‏؛ هلا ‏{‏اجتبيتها‏}‏ أي‏:‏ تخيرتها وطلبتها من ربك، أو هلا اخترعتها وتقولتها من نفسك كسائر ما تقرأ‏؟‏ ‏{‏قل إِنما أَتبع ما يُوحى إليَّ من ربي‏}‏ فلا أطلب منه آية، ‏{‏فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏، أو‏:‏ لا أخترع القرآن من عند نفسي، بل أَتبع ما يُوحى إليَّ من ربي‏.‏

‏{‏هذا‏}‏ القرآن ‏{‏بصائرُ‏}‏ للقلوب ‏{‏من ربكم‏}‏، أي‏:‏ من عند ربكم، بها تُبصر الحق وتُدرك الصواب، ‏{‏وهُدىً ورحمةٌ لقوم يؤمنون‏}‏؛ وإرشاد أو طمأنينة لقلوب المؤمنين‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تقدم مرارًا ما في طلب الآيات من ضعف اليقين، وعدم الصدق بطريق المقربين، وإنما على الأولياء أن يقولوا‏:‏ ‏{‏هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يُؤمنون‏}‏ بطريق المخصوصين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏204‏]‏

‏{‏وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏204‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا قُرىء القرآنُ‏}‏، مطلقًا، ‏{‏فاستمعوا له وأنصتُوا‏}‏؛ لكي تعتبروا وتتدبروا، فإنما نزل لذلك، وهل على الوجوب أو الاستحباب وهو الراجح‏؟‏ قولان‏:‏ وقيل‏:‏ الاستماع المأمور به لقراءة الإمام في الصلاة، وقيل‏:‏ في الخطبة، والأول الراجح، لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ عموم اللفظ، ولا دليل على تخصيصه، والثاني‏:‏ أن الآية مكيّة، والخطبة إنما شُرعت بالمدينة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلكم تُرحمون‏}‏ أي‏:‏ بسبب ما تكتسبه القلوب من الرقة والخشية عند استماع القرآن، قال بعضهم‏:‏ الرحمة أقرب شيء إلى مستمع القرآن؛ لهذه الآية‏.‏ قاله ابن جزي‏.‏

الإشارة‏:‏ الاستماع لكلام الحبيب أشهى للقلوب من كل حبيب، لا سيما لمن سمعه بلا واسطة، فكل واحد ينال من لذة الكلام على قدر حضوره مع المتكلم، وكل واحد ينال من لذة شهود المتكلم على قدر الحجاب عن المستمع، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏205- 206‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏205‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ‏(‏206‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن تبعه‏:‏ ‏{‏واذكر ربك في نفسك‏}‏ أي‏:‏ في قلبك؛ بحركة لسان القلب، أو في نفسك؛ سرًا بحركة لسان الحس، ‏{‏تضرُّعًا وخِيفَةً‏}‏ أي‏:‏ متضرعًا وخائفًا، ‏{‏ودونَ الجهر من القول‏}‏ أي‏:‏ متكلمًا كلامًا فوق السر ودون الجهر، فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص، ولا حجة فيه لمن منع الذكر جهرًا؛ لأن الآية مكية حين كان الكفر غالبًا، فكانوا يسبون الذكر والمذكور، ولما هاجر المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، جهر الصحابةُ بالتكبير والذكر‏.‏ فالآية منسوخة‏.‏ انظر‏:‏ الحاوي في الفتاوى للإمام السيوطي‏.‏ فقد أجاب عن الآية بأجوبة‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏بالغُدوِّ والآصال‏}‏ أي‏:‏ في الصباح والعشي، حين تتيقظ من نومك الشبيه بالبعث، وحين تريد النوم الشبيه بالموت، وقيل‏:‏ المراد صلاةَ العصر والصبح، وقيل‏:‏ صلاةَ المسلمين، قبل فرض الخمس، وقيل‏:‏ للاستغراق، وإنما خص الوقتين؛ لأنهما محل الاشتغال، فأولى غيرهما‏.‏ ‏{‏ولا تكن من الغافلين‏}‏ عن ذكر الله‏.‏

‏{‏إن الذين عند ربك‏}‏؛ يعني ملائكة الملأ الأعلى، ‏{‏لا يستكبرون عن عبادته ويُسبحونه‏}‏؛ يُنزهونه عما لا يليق به، ‏{‏وله يسجدون‏}‏ أي‏:‏ يخصونه بالعبادة والتذلل، لا يشركون به غيره، وهو تعريض بالكفار، وتحريض للمؤمنين على التشبه بالملأ الأعلى، ولذلك شرع السجود عند قراءتها‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا قَرَأَ ابنُ آدمَ السجدةَ، فَسَجَدَ، اعتَزَلَ الشيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ‏:‏ يَا وَيْلهُ، أمِرَ هذا بالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الجَنّةُ، وأُمِرْتُ بالسُجُودِ فعصَيت فَلِي النارُ»‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الذكر على خمسة أقسام‏:‏ ذكر اللسان فقط؛ لعوام المسلمين، وذكر اللسان مع القلب، لخواص الصالحين وأول المتوجهين، وذكر القلب فقط؛ للأقوياء من السائرين، وذكر الروح؛ لخواص أهل الفناء من المُوحدين، وذكر السر؛ لأهل الشهود والعيان من المتمكنين، وفي قطع هذه المقامات يقع السير للسائرين، فيترقى من مقام، إلى مقام، حتى يبلغ إلى ذكر السر، فيكون ذكر اللسان في حقه غفلة‏.‏

وفي هذا المقام قال الواسطي رضي الله عنه‏:‏ الذاكرون في حال ذكره أشد غفلة من التاركين لذكره؛ لأن ذكره سواه‏.‏ وفيه أيضًا قال الغزالي‏:‏ ذكر اللسان يُوجب كثرة الذنوب‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

مَا إِنْ ذَكَرْتُكَ إلاَّ هَمَّ يَلْعَنُني *** سرِّي، وقَلْبِي، وَرُوحِي، عِنْدَ ذِكْرَاكَ

حَتَّى كَأنَّ رَقِيبًا مِنْكَ يهْتِفُ بِي‏:‏ *** إِيَّاكِ، وَيْحَكَ، والتَّذكَارَ إيَاكِ

أَمَا تَرَى الحَقِّ قَدْ لآحَتْ شَوَاهِدِهُ *** وَوَاصِل الكُلِّ مِنْ مَعْنِاهُ مَعْنَاكَ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الذين عند ربك‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية، قال القشيري‏:‏ أثبت لهم عندية الكرامة، وحفظ عليهم أحكام العبودية؛ كي لا ينفك حال جمعهم عن نعت فرقهم وهذه سُنَّة الله تعالى مع خواص عباده، يلقاهم بخصائص عين الجمع، ويحفظ عليهم حقائق عين الفَرْق، لئلا يُخِلّوا بآداب العبودية في أوان وجود الحقيقة‏.‏ ه‏.‏